لقد شعرنا جميعا بالصدمة جراء حادث غرق قارب المهاجرين غير الشرعيين قبالة السواحل المصرية الشهر الماضي. وبلا أدني شك يعد هذا الحادث أحد أكبر المآسي هذا العام، مع عدد القتلى الذي وصل إلى أكثر من مائتي إنسان فقدوا حياتهم من أجل وهم الحصول علي فرصة أفضل علي الجانب الآخر من المتوسط. ولقد أثار الحادث سيلاً من الأفكار والعواطف حول خطورة وتعقد ظاهرة الهجرة غير الشرعية، باعتبارها ظاهرة متعددة الأبعاد تحمل تكلفة اجتماعية واقتصادية وإنسانية عالية للجميع في بلدان المنشأ والعبور و المقصد على حد سواء.
الجهود الوطنية لمكافحة ظاهرة الهجرة غير الشرعية
كانت مصر واحدة من أوائل الدول التي أدركت خطورة هذه المشكلة متعددة الأوجه وما تخلفه من تداعيات، وضرورة التعامل معها بمزيد من الاهتمام. فالحكومة تتحمل التزاماتها في هذا الصدد، كما أن تصاعد موجة الهجرة غير الشرعية لن تزيدنا إلا تصميماً على اتخاذ جميع التدابير الوقائية على كافة المستويات لوقف الخسائر في الأرواح من المواطنين المصريين والأفارقة الذين يتم استغلالهم من قبل المهربين. ويقع في القلب من هذا الالتزام اعتقاد صلب بضرورة اعتماد نهج شامل لمعالجة هذه المشكلة في جوهرها.
وتحقيقا لهذه الغاية، كان من الضروري إنشاء كيان مصري جديد لتحديد سياسة الدولة في مواجهة التحديات المتزايدة الناجمة عن ظاهرة الهجرة غير الشرعية وتذليل أية معوقات بيروقراطية قد تواجهنا في هذا الإطار، حيث أصدر رئيس مجلس الوزراء في مارس عام 2014، قرارا بإنشاء اللجنة المصرية الوطنية التنسيقية لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية (NCCPIM)، ككيان مشترك يضم 19تسعة عشر من الوزارات والهيئات الوطنية المعنية بحقوق الإنسان. ويتمتع هذا الكيان بإطار مؤسسي وولاية واضحة لتنسيق الجهود الوطنية، ووضع الأسس القانونية والعملياتية التي سوف ترتكز عليها هذه الجهود.
اكتشفت اللجنة القومية منذ البداية الحاجة المتزايدة لسن تشريع وطني جديد يضع تعريف واضح لجريمة تهريب المهاجرين، بما يعطي أجهزة إنفاذ القانون الأدوات القانونية اللازمة للضرب بيد من حديد على شبكات التهريب المنظمة والتأكد من عدم إفلاتهم من العدالة في ظل تلاعبهم بمصير وتطلعات أجيالنا الشابة تحقيقاً للربح. وعملت اللجنة التنسيقية علي وضع قانون شامل يفتح آفاقا جديدة للتعامل مع هذه الظاهرة، يحمل اسم قانون “مكافحة الهجرة غير الشرعية وتهريب المهاجرين” وتمت صياغة هذا القانون بالتعاون مع كافة الأطراف الوطنية المعنية ووفقا لالتزامات مصر الدولية، وعلي رأسها بروتوكول باليرمو (2) واتفاقية حقوق الطفل، وبما يتفق مع مبادئ وقواعد حقوق الإنسان المعترف بها دوليا. وقد تم تقديم مشروع القانون للحوار المجتمعي ليوافق عليه مجلس الوزراء المصري في نوفمبر عام 2015. كما تم اعتماده مؤخرا من حيث المبدأ من قبل البرلمان ليشكل، جنبا إلى جنب مع قانون مكافحة الاتجار بالبشر الصادر في عام 2010، حجر الأساس القانوني لاستجابتنا الوطنية لظاهرة الهجرة غير الشرعية . وسيعد هذا القانون بمثابة نموذج رائد يمكن تكراره في بلدان الشرق الأوسط الأخرى.
وبالتوازي مع التغييرات الهيكلية اللازمة في الإطار القانوني، تعاملت اللجنة مع الجوانب العملياتية المرتبطة بمكافحة ظاهرة الهجرة غير الشرعية. وتمثلت الخطوة الأولى في وضع خارطة إحصائية للمحافظات المصرية التي تحظي بأعلي معدلات التعرض لخطورة الهجرة غير الشرعية، وهو ما ساعد اللجنة على القيام بواجبها في الحد من تدفق المهاجرين غير الشرعيين، واستهداف كل من المجتمعات المعرضة للخطر والمهربين. ولهذا الغرض انتهت اللجنة من دراستين ميدانيتين حول الشباب والأطفال غير المصحوبين تحت سن الثامنة عشر، حيث تم تحديد الأشكال المختلفة من الهجرة غير الشرعية، والعوامل الدافعة والخصائص الديموغرافية للشباب المصري والأطفال المهاجرين بطريقة غير شرعية.
وفرت الدراستين للباحثين وصناع القرارات على حد سواء المرجعية اللازمة للتحليل المستنير والتعامل المتكامل بما يمهد الطريق أمام حل متكامل لكارثة الهجرة غير الشرعية. وقد كللت جهودنا ببلورة أول إستراتيجية وطنية (2016-2026) التى من المنتظر إطلاقها قريباً، وهى بمثابة خارطة طريق لعشر سنوات كاملة تم الاتفاق عليها من قبل كافة الجهات الوطنية المعنية، وتتضمن كافة الأبعاد الاقتصادية والمجتمعية والسياسية والثقافية، بما يوفر أساسا قوياً لحل متعدد الأبعاد لمواجهة هذه الظاهرة. كما تم تطوير خطة عمل لعامين في إطار هذه الإستراتيجية تتضمن آليات للتنفيذ والمراجعة على أساس مؤشرات رئيسية للأداء يمكن التحقق منها.
أن رفع مستوى الوعي العام يعد من الركائز الرئيسية لإستراتيجيتنا القومية. فبالتنسيق مع المنظمة الدولية للهجرة، قمنا بإعداد دراسة حول المكونات الرئيسية لحملة إعلانية. وتقوم اللجنة بالتواصل مع وسائل الإعلام المحلية والدولية، من أجل تسليط الضوء على الأضرار الناتجة عن الهجرة غير الشرعية من ناحية والبدائل الاقتصادية في مصر من ناحية أخرى. وقد ارتكزت جهودنا في هذا الصدد على العمل الاستباقي من خلال التواصل المباشر مع شبابنا، وإجراء العديد من الزيارات الميدانية للمجتمعات المحلية المعرضة للخطر في جميع أنحاء المحافظات المصرية من أجل التوعية وشرح المخاطر التي يتعرض لها المهاجرون غير الشرعيون عندما يضعوا مصيرهم بين أيدي العصابات الإجرامية من المهربين. فرسالتنا للشباب واضحة: أن الأمر لا يستحق التضحية بحياتك وكرامتك من أجل وعود واهية، فلا يجب أن تفقد الأمل، فمصر هي المستقبل.
البعد الاقتصادي والاجتماعي
قد يرى البعض عدم وجود سبب رئيسي واحد لمشكلة الهجرة، فهناك دوافع معقدة ومتشابكة لهذه الظاهرة، غير أن العوامل الاجتماعية والاقتصادية تظل هي العوامل الرئيسية التي تحظى بالتأثير الأكبر على الهجرة غير الشرعية. فلابد أن تحظى الجوانب التنموية للمشكلة بالنصيب الأكبر من اهتمامنا، لاسيما وأن جهودنا لن تكلل بالنجاح المرجو دون تبني مشروعات اجتماعية واقتصادية تلبي طموحات و آمال الشباب بعيداً عن حلم الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط. كما أنه من الضرورى العمل على تحسين جودة التعليم وتهيئة مناخ مناسب لشباب مصر يحفزهم على البقاء في بلدهم. وينصب تركيزنا الأكبر كذلك على التعليم الفني كونه مجالا حيوياً يوفر فرص توظيف هائلة. كما يتضمن عملنا العمل على خلق شراكات مع المنظمات المعنية بتنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر في مصر من أجل تسليط الضوء على فرص العمل المتوفرة في هذا القطاع، الذي يعد من المحركات الرئيسية للتنمية وخلق فرص العمل في العديد من الدول. إن أهم مميزات هذه الأمة تكمن فى رصيدها وثروتها البشرية، فعلى الرغم من المصاعب الاقتصادية التي تمر بها مصر فإن الحكومة تتخذ كل الخطوات اللازمة لفتح أفاق جديدة لجيل الشباب من أجل تحقيق الازدهار والابتكار. فتفعيل شبكات الأمان القائمة، وخلق فرص عمل جديدة، ونشر رسالة أمل هي خطوات أولي في طريق ممتد من أجل مكافحة الهجرة غير الشرعية في مصر.
ومن الجدير بالذكر أن تزايد حجم ظاهرة الهجرة غير الشرعية مؤخرا، إنما يأتي على خلفية الوضع السياسي والأمني المضطرب في الشرق الأوسط، حيث تتعرض المنطقة لضغط متزايد يولد مشاكل ديموغرافية، ليس لأوروبا فحسب ولكن لدول جنوب المتوسط كذلك. وتعتبر مصر واحدة من هذه الدول التي تتحمل عبئا ماليا نتيجة استضافتها الكريمة لملايين اللاجئين والمهاجرين. وعلى عكس الوضع السائد في الدول الأخرى، لا يتم تسكين اللاجئين والمهاجرين إلى مصر في مخيمات منفصلة، بل هم جزء لا يتجزأ من مجتمعنا، يشاركوننا كافة جوانب الحياة ويحصلون علي جميع الخدمات الاجتماعية الأساسية التي توفرها الحكومة للمواطنين المصريين. وتعد مصر كذلك نقطة عبور لعمليات الهجرة غير الشرعية القادمة من أفريقيا، مما يضع عبئا إضافيا على الموارد المحدودة للبلاد. ويتناول القانون الذي تم إقراره مؤخرا التحديات التي تواجه مصر، ليس فقط باعتبارها بلد المنشأ، ولكن أيضا باعتبارها بلد المقصد، حيث يوفر القانون جميع أنواع المساعدة للمهاجرين الذين يرغبون في العودة الطوعية إلى بلدانهم، مع الاحترام الكامل لحقوقهم الإنسانية. وسيتم إطلاق صندوق خاص وفقا لهذا القانون، لإضفاء الحماية اللازمة على كل من المهاجرين والشهود الذين يقومون بالإبلاغ عن جرائم التهريب.
التعاون الإقليمي والدولي:
قد لا يكون الدعم الدولي كافيا للمساعدة في تخفيف العبء الذى تتحمله العديد من الدول في استضافة الإعداد المتزايدة من المهاجرين. ونحن على استعداد لتعزيز مشاركتنا مع الجهات المانحة الدولية والمؤسسات المالية لتعبئة موارد إضافية للمشاريع التنموية ذات التأثير الفوري على الشباب الأكثر عرضة للهجرة غير الشرعية في مصر وغيرها من الدول.
وتضع اللجنة التنسيقية أولوية قصوى لتعزيز التعاون الإقليمي، لا سيما مع جيراننا الأفارقة. وتعمل اللجنة بشكل وثيق مع وزارة الخارجية المصرية على توفير برامج تدريبية وأخري لبناء القدرات للدبلوماسيين والمسئولين الأفارقة في مجال تحقيق العدالة. ونعتقد أن اللجنة التنسيقية هي بمثابة نموذج مؤسسي يمكن تكراره في جميع أنحاء القارة، ونحن مستعدون أن نتبادل الخبرات وأفضل الممارسات في هذا الصدد. إن مصر أيضا طرف رئيسي في إطار “عملية الخرطوم” بين الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي، والذي يهدف إلى إقامة حوار متواصل بشأن الهجرة غير الشرعية.
أن من يتصور أن الإجراءات الأمنية قد تكفي وحدها لمواجهة التحديات الهيكلية المرتبطة بظاهرة الهجرة غير الشرعية لهو واهم، فالمسألة أعقد بكثير من مجرد ضبط الحدود، كما أن تزايد النزعة الحمائية السائدة ببعض الدول الغربية لن يحل المشكلة، بل أن تبني إجراءات صارمة لن يؤدي إلا لمزيد من الصعوبات والتحديات. فإذا أردنا اجتثاث هذه الظاهرة، فلزاماً علينا أن نتحمل المسئولية والعمل معا من أجل إقامة شراكة جماعية وصلبة تطرح حلولا مستديمة لهذه المشكلة مع التركيز على الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية لهذه المسألة.
المهمة ليست سهلة ولن تكون، إلا أنه من الضروري أن نمضي في طريقنا حتى النهاية بالرغم مما نواجهه من صعوبات. وستستمر مصر في تحمل مسئولياتها، وستضطلع بدورها في إطار الجهود الإقليمية والدولية الجارية لمكافحة الهجرة غير الشرعية حرصاً على أبنائنا وعلى سلامة البشرية بجميع أنحاء العالم. إن رؤيتنا في هذا الإطار تستند إلى حقيقة الأوضاع على الأرض وتتلازم مع إرادة والتزام سياسي سيمكننا من التغلب على هذا التحدي.